مع المعاصرين:

أسماء وآثار في الذاكرة والقلب

الجزء الأول

 

للدكتور عباس الجراري

 

منشورات النادي الجرار مطبعة دار الهلال – 1995

 

المقدمـة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

        في تاريخ  ثقافتنا العربية الإسلامية تقاليد دالة على مدى التقدير الذي كان متعارفا عليه بين حاملي هذه الثقافة، علماء وأدباء، مما يتجلى في كلمات التنويه التي كانوا يتبادلونها في المناسبات التي تقتضيها، وكذا في المراثي التي كان يؤبن بها من ينتقل إلى رحمة اله.

 

        ولعلنا أن نشير في هذا الصدد إلى ما تضمه الفهارس والبرامج وكتب الرحلات والتراجم والطبقات، وما إليها مما حفظ به تراث الرجال، لا سيما ما يتعلق بحياتهم وأطوار هذه الحياة، وما أنتجوا أثناءها وخلفوا من إنتاج، مع ضبط – قدر الإمكان – للتواريخ، في إلحاح على تاريخ الوفاة.

 

        وربما كان للمشارقة في هذا المجال ما لم يكن للمغاربة الذين شاع عنهم إهمال نبغائهم، وقلة العناية بتدوين أخبارهم وإذاعة إنتاجهم وصيانته، وعدم المبالاة بهم في حياتهم، إلى حد غدا متداولا بينهم أن " المرء ما دام حيا يستهان به "، و أن "المعاصرة حجاب " وأنها " تمنع المناصرة ". بل إن بعض من تدبروا هذه الملاحظة وعانوها، انتهوا – كما عند اليوسي – إلى أن الاعتناء بالأخبار والوقائع والمساند " ضعيف جدا في المغاربة، فغلب عليهم في باب العلم الاعتناء بالدراية دون الرواية، وفيما سوى ذلك لا همة لهم ". وكان قد سأل شيخه أبا عبد الله بن ناصر يوما عن السند فيما كان يأخذه عنه، فقال له : " إنا لم تكن لنا رواية في هذا، وما كنا نعتني بذلك "(1).

 

        وعلى الرغم مما قد يكون في مثل هذه الأقوال من تأكيد للحقيقة والواقع، أو ما قد يكون فيها من مبالغة، وعلى الرغم كذلك مما في التراث المغربي من مصادر حفظت غير قليل من تراجم العلماء والأدباء والمتصوفة والملوك وغيرهم، فإن الظاهرة قائمة لها شواهد وأعلام تثبت صدق تلكم الأقوال، وإن في غير إطلاق.

 

ويغلب على الظن أن وجود هذه الظاهرة مرتبط بالمدى الذي يكون للثقافة، إما في خط الازدهار أو الانهيار. ومن هنا لا تستغرب العناية التي تبدو في بعض المؤلفات، على نحو ما ذكر؛ كما لا يستغرب الإهمال الذي قد يلاحظ في هذا المضمار. وهو إهمال ذاع أمره في العهود المتأخرة، وانتقلت آثاره ورواسبه إلى المرحلة الحديثة والمعاصرة.

 

ويبدوا أن شيئا من التغيير طرأ على هذا الواقع، مع بوادر النهضة التي عرفها المغرب منذ سنوات العشرين من هذا القرن، على نحو ما تبرزه التقاريظ التي كانت تكتب على بعض المدونات، وختمات كبار العلماء وما كان يقال في مناسبتها، وكذلك ما كان يتبادل في سياق المساجلات والإخوانيات، بالإضافة إلى رثاء من يتوفى منهم وما ارتبط بهذا الرثاء من إحياء ذكراهم وتأبينهم، وإن في حدود ضيقة، علما بأن بعض هذه التقاليد كان معروفا قبل هذه الفترة، وإن لم يكن شائعا. أما تكريم الأحياء، فلم تكن به عناية، وإن وقع بالنسبة للبعض.

 

وقد أخذ المغاربة في العقود الثلاثة الأخيرة يعنون بإقامة هذه المناسبات وتنظيمها والاحتفاء بها، مما غدا اليوم من قبيل المألوف.

 

وإذ أتيح لي أن أشارك في حفلات تكريم وذكريات تأبين، مما نظم لبعض الذين تربطني بهم صداقة أو أواصر فكرية، سواء من المغاربة أو المشارقة؛ فقد ارتأيت أن أجمع نماذج مما تسنى لي كتابته في هذا المجال، وهي تتراوح بين التعبير العاطفي والتحرير العلمي، وفق ما يقتضيه الحال – مضمونا وأسلوبا –  وكذا وفق ما تعكسه شخصية المكرم أو المؤبن.

 

وإلى هذه الكلمات أضفت عروضا ألقيتها في الترحيب ببعض الزملاء في مؤسسات مجمعية، وأخرى ساهمت بها في ندوات نظمت لإحياء ذكرى علماء أكن لهم كبير التقدير، وإن كنت – بحكم السن – لم ألتق بهم.

 

وقد جعلتها في قسمين :

الأول : خاص بما قيل منها في مناسبات التكريم.

الثاني : متعلق بما قيل منها في مناسبات التأبين.

 

وهي – جميعا – تلتقي في كونها تتناول معاصرين، ممن رسمت أسماؤهم وآثارهم في ذاكرتي والقلب. وفي النية إصدارها مضمومة في أسفار، يسعدني في هذا الجزء أن أقدم أولها، راجيا أن تحقق هدفها وتتم الفائدة منها على النحو المأمول.

 

        والله الموفق.

 

الرباط في 20 جمادى الثانية 1416 هـ/ 14 نونبر 1995 م

                                                                           عباس الجراري

ـــــــــ

1) المحاضرات ص 59 ط حجرية.